كتب:جنى نخال
( عضو في قطاع الشباب والطلّاب في الحزب الشيوعي اللبناني)
______________________________________________
ربّما يكون أحد إثباتات نجاح حراك شعبي استفزازه للسلطة. تفتّقت خطاباتهم غاضبة أو عنفاً قبيحاً وقحاً، فتأكدنا أننا على حقّ.
بعد فترة على استرجاعنا للساحات في وسط بيروت -الذي بدء الحريري بسرقته بعد نهاية الحرب الأهلية، ولم تنته الشركات الأجنبية أو المحلية من جعله مكانا للثلة المختارة- ظهر نقولا شماس، رئيس جمعية تجار بيروت في مؤتمر صحفي.
ببدلة نظيفة وشعر مهندم وسحنة غير ملوّحة بشمس المظاهرات مثلنا، وبلهجة مهذّبة هادئة، علا صوته شيئا فشيئاً بالتهديد والوعيد متّهماً أفراد الحراك ومنظٍّماته ومنظّميه بأنهم “شيوعيون، بقايا ماركسيين لفظتهم روسيا والصين”. واستكمل كلامه قائلاً “وسط بيروت لن يتحوّل إلى أبو رخّوصة”، مسترجعاً عبارة كنّا قد نسيناها: “أبو رخّوصة”، محلّات بيروت الصغيرة التي تبيع أي شيء وكل شيء بأسعار زهيدة.
حملنا هذه الكلمات تُهَماً وعبارات نابية، ومشينا بها إلى الساحة التي نتظاهر فيها، نحوّلها حقيقة.
جعلنا “أبو رخّوصة” سوقاً شعبياً واقعياً في وسط بيروت المقفل على الفقراء منذ أقّره الحريري مدينة مسوّرة سكناً وتجارةَ وزيارة.
واجهنا الحقد ببسطات من الثياب المستعملة، وعصير البرتقال الطازج، والأشغال اليدوية، والموسيقى الشعبية في عقر دارهم..لا بل في عقر دارنا.
قضينا يومين، نجمع حاجاتنا من متبرّعين ومتحمّسين\ات تواصلوا معنا يدعمون مطالبنا ويكفرون بمدينتهم ومفاهيمهم وحاجتهم للخلق وسيلة للربح من كل شيء.
أذكر أننا بعنا لوجوه لربّما لم ترَ هذا الجزء من المدينة من قبل.
كانوا لاجئات ولاجئين سوريين يشترون لأولادهم ثياب العيد، وأهل الضواحي الفقيرة، وأهل المدينة التي لا تقلّ فقراً. جاؤوا من نواحٍ بعيدة، وحتّى من الأحياء المتاخمة لوسط المدينة المعاد إعماره…وهم لا يدخلونه برغم المسافة القصيرة التي تفصل بينهم.
حتّى عمّتي، تلك الحاجّة البسيطة التي تتعبها رجلاها من المشي، نزلت إلى الوسط الذي لم تزره منذ الحرب الأهلية ربّما، ودارت بين البسطات تشتري وتضحك.
ما صنعه احتلال -أو استرجاع لمكان عام هو- أنه ذكّر الناس أن هذه المدينة لهم\ن وأنهم حقاً ممنوعون وممنوعات منها. بعد سنين طوال من البروباغاندا الحريرية التي قالت للناس “تخلّوا عن مدينتكم للأجانب، فسوف تدر عليكم المال”، استفاق الناس دون مدينة ودون مال. كان الحديث غالباً ما يكون، ردّاً على انتقاداتنا للسياسات الحريرة ونهب وسط المدينة وتاريخها ،”أصبروا أيها المراهقات والمغامرون الثوريون، سنقطف ثمار صبرنا هذا”. واليوم، لم تَعُد حجج الأوليغارشية المهيمنة تُسمن من جوع. عرف أهل بيروت أنهم طَرِدوا من وسط مدينتهم وها هم يَطردون من أحيائهم يوماٌ بعد يوم. وعرف أهل المناطق والمخيمات والقرى، أن لا المدينة ستذكرهم يوماٌ ولن يكون لهم مكان فيها لغير العمل والكدّ والرفض.
إحتلّ رفيق الحريري يوماً منصب رئيس وزراء لبنان، وطبّق على شكل بيروت كمدينة، سياساته الإقتصادية النيوليبرالة، جاعلاً من مدينة متنوّعة نابضة مدينة بلا قلب ومحدّدا دورها كمركز تجاري سياحي لبععض الأوروببين، وكل الخليجيين. لكنّ سوق “أبو رخّوصة” هذا، أرجع المدينة للناس، ولو لساعات معدودة.