الفصل الثامن من كتاب (( أمراء الاستعباد ؛ الرأسمالية وصناعة العبيد ) ) والذى يصدره موقع المجتمع الديمقراطى للكاتب والباحث ( رمضان عيسى الليمونى ) .
الفصل الثامن .
تطور العبودية القرن العشرين
ظهرت منذ النصف الثاني من القرن العشرين هجمة مفترسة من المصطلحات التي تم ترويجها في الخطاب الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وظلّ دعاة العولمة يروّجون أنه بإمكاننا تحقيق العدالة الاجتماعية والرفاه الإنساني، وقد استهلكنا مئات الألوف من ساعات البثّ للمؤتمرات والمنتديات الدولية الساعية إلى القضاء على العنف والفقر، شريطة أن تحقق الدول كافة إجراءات تغيير النظم الاقتصادية والاجتماعية لتتلاءم مع النظام الاقتصادي العالمي، وبرغم أن كافة دعاوى العولمة قد باءت بالفشل نتيجة تلك الأزمات المتكررة والمتلاحقة التي تُحدثها الرأسمالية الأمريكية تحديداً، لكن في كّل أزمةٍ تخرج العديد من السيناريوهات التي تلقي بتبعية إخفاق الرأسمالية على تلك الدول التي لم تتحول كلية إلى اقتصاد السوق المحررة من القيود.
وفي ظلّ المشهد الضبابي الذي يُغلّف العالم نتيجة ما خلّفته عولمة السوق الحرّة من فوضى مالية واقتصادية واجتماعية وسياسية، إلا أنه مازالت الرأسمالية تروّج لنمطٍ وحيدٍ من النشاط الاقتصادي القائم على بيع كل ما يمكن أن يحقق أرباحاً، وبدءاً من بيع موسيقى البوب والكوكاكولا وماكدونالدز إلى بيع البشر، تتبدى كافة المحاولات الدؤوبة التي تبذلها الشركات العالمية لجني الأرباح التي تعتمد على إنتاج أكبرٍ كمّ من السلع والمنتجات والخدمات التي يتم تصنيعها عبر العديد من المدخلات التي يتوجّب الحصول عليها بأقل تكاليفٍ ممكنة؛ سواء تلك المتعلقة بالمواد الداخلة في عملية التصنيع أو تلك المرتبطة بالموارد البشرية التي تقوم بعملية الإنتاج، مما يؤدي في النهاية إلى إنتاج ملايين السلع يومياً بأسعارٍ أقل من القيمة الحقيقة لتكلفتها إذا ما تم الحصول عليها بطرقٍ مشروعةٍ وعادلةٍ، وهو ما يسهم في الترويج لمنتجات تُباع بأسعارٍ منخفضةٍ للغاية مما يحقق نسب مبيعات مرتفعة وبالتالي جني الكثير من الأرباح.
إن مجمل ما حققته الرأسمالية الأمريكية صناعة نمطاً عالمياً موحّداً للنشاط الاقتصادي وللحياة الاجتماعية والممارسات الثقافية وهو نمطٌ ينتج مما تصْنعه الشركات من السعي المحموم من أجل الاستهلاك اليومي المتوهّج بشكلٍ غير منقطعٍ أو بطيء، وفي سبيل ذلك تعمل الشركات على توفير كل ما يلزم عمليات الإنتاج من مواد خام وأيدي عاملة رخيصة الأجر وأسواقٍ مكتظةً بالمستهلكين، وتجاوز بل وربما تحطيم كافة المعوقات التي قد تحول دون وصول الشركات إلى جني الأرباح الطائلة.
لقد حازت دول العالم الثالث في جميع القارات وعلى رأسها – قارة أفريقيا- باهتمام الشركات للحصول على كافة الموارد الاقتصادية والأيدي العاملة متدنية الأجور والأسواق النشطة، وهي في مسارها هذا لم تنفصل جينياً عن أسلافها من الشركات التي اقتحمت القارة السمراء والأمريكتين وشبه القارة الهندية لاستنزاف كافة الموارد الاقتصادية والغذاء وتوريدها إلى المصانع الأوروبية، ولذا فإنّ نشاط الشركات الآن يمثل امتداداً طبيعياً لتلك الممارسات التي كانت تقوم بها الشركات القديمة في تلك المناطق منذ اكتشاف طرق التجارة العالمية حول القارة، فكل ما يمكن تلمّسه من تغيرٍ هو ” أنّ الشركات قد غيّرت من أنماط حصولها على الموارد الاقتصادية والثروات بأبخس الأثمان، وأنّ التجار قد غيّروا من أساليب تسويقهم للمنتجات، والمبشّرون قد أعادوا صياغة رسالتهم بشكلٍ جديد معتمدين على منجزات تكنولوجيا المعلومات، والمرتزقة قد طوّروا من أسلحتهم المدمرة لثروات الشعوب”، ويبقى في النهاية استنزاف ثروات الشعوب هو الموجِّه والصانع لخارطة الأحداث المدمّرة للإنسانية في الوقت الراهن.
إنّ ما يعايشه العالم منذ مطلع الألفية الثالثة من تدني مستويات المعيشة والفقر المدقع وملايين الفقراء الذين يموتون كل يومٍ نتيجة نقص الغذاء، وازدواجية تطبيق معايير حقوق الإنسان على النظم الديكتاتورية، وذلك الدعم الذي تتلقاه الحركات الانفصالية والمشعلة للنزاعات المسلّحة الدامية في كثيرٍ من دول العالم، إنّما يكشف كله على ذلك الخداع والزيف الذي تمارسه الرأسمالية الأمريكية بغطاء العولمة منذ النصف الثاني من القرن العشرين، فكافة الوعود بتحرير الإنسان من الفقر والعوز والقهر والتي لم يتحقق منها شيئ حتى الآن تمثّل أدلةً دامغةً على فشل السياسات الرأسمالية الاقتصادية في العالم.
إنّ الرابح الوحيد حتى الآن منذ إندلاع نهش العولمة في ثروات ومقدّرات دول العالم الثالث هي الشركات، لما أحدثته إدارتها من انقلابٍ عميقٍ في الهياكل الاقتصادية الدولية وما نجم عنه من إفقار وتدمير ثروات شعوب العالم والسعي الحثيث لقلب أوضاع العلاقات النمطية للإنتاج والاستهلاك لصالح متطلبات السوق ولا شيء غير السوق، وفي المقابل لم تجن شعوب العالم الثالث سوى الإفقار ونهب الثروات وتحويلها إلى مجرّد مستهلكاً نهماً لمنتجات الشركات، وهو ما أصاب تلك الدول بخلخلةٍ كارثيةٍ في النظم الإنتاجية وفي العلاقات الاجتماعية والقيم الثقافية التي أدت إلى هبوط ملايين الأفراد إلى خط الفقر وتحملهم لنتائج تلك الإجراءات والممارسات الكارثية التي أحدثتها الشركات في تلك الدول.
لقد تمكّنت الشركات من إعادة صياغة مجتمعات بالكامل، من خلال ابتكار العديد من الوسائل المحفّزة والمساعدة على تلك العملية، بدءاً من عملية إفقار وتهميش أفراد المجتمع، و صناعة سلطاتٍ توازي تلك السلطة التي تنْجم من نفاذ المنتج في أسواق تلك المجتمعات، وتحفيز سلطة المعتقدات والتقاليد الثقافية المكبّلة لحرية الفرد وخصوصيته وآداميته في الحياة، ربما سنذكر فقط بعض تلك المشاهد والسلطات لنرى أثرها على مظاهر العبودية التي يتعرّض لها الإنسان في القرن والواحد والعشرين تحت إدارة الشركات للعالم.
إنّ امتلاك الشركات القوّة النافذة والمهيمنة نتاج لطبيعية تكوينها ونشأتها التي قد منحتها الدولة كل رعايةٍ واهتمامٍ بالغٍ وسُمح للشركات باستخدام مواردها المالية الخاصة لخدمة أهدافٍ عامة، وقد أنفقت كذلك الدولة أموالها العامة لمساندة ودعم مصالح الشركات، وهو ما أحدث ذلك التداخل والتشابك في المصالح والعلاقات بين مجموعةٍ أفرادٍ يمتلكون شركةٍ تسعى لتحقيق أرباحٍ طائلةٍ، وبين أجهزة الدولة ومؤسساتها البيروقراطية وسياساتها الدولية، وهكذا فإنّ الدول بذلت جهوداً مضنية لحماية الشركات، بل وتقديم كافة الدعم السياسي والقانوني على المستوى المحلي والدولي، ولنتذكر شركة الهند الشرقية وشركة خليج هدسون فإنها تمثل نوذجاً عملياً تلك العلاقة التاريخية بين الشركات والدولة، فقد منحت الدولة تلك الشركات امتيازاتٍ خاصة ومميزة من نوعها، بل وصل الأمر إلى أن بعض المستعمرات الأمريكية كانت هي بذاتها أشبه بشركات، أي مجموعة من المستثمرين الذين مُنحوا سلطاتٍ احتكاريةٍ على أراضٍ وعلى صناعاتٍ بعينها في منطقة جغرافيةٍ ما.
” نتيجة لذلك اكتسبت الشركات قوّة هائلةً وأصبحت قادرة على التأثير في السياسة التجارية، على سبيل المثال، تمكّن البرلمان البريطاني في القرن الثامن عشر وكان مؤلفاً حينذاك من ملّاك أراضي وتجّار وصناعيين، من تمرير قوانين تتطلب مرور جميع البضائع القادمة أو الذاهبة إلى المستعمرات عبر بريطانيا، وشحنها على سفنٍ بريطانية يقودها بحّارة بريطانيون، إضافة إلى ذلك، تم منع سكّان المستعمرات من إنتاج قبعاتهم وأغطية رؤوسهم وأية بضائع مصّنعة من الصوف أو من الحديد”( ).
لم تنقطع سلسلة استلهام الشركات للقوّة والسيطرة عبر ذلك التداخل في العلاقة بينها وبين الدولة، بل إنّ سيطرة الشركات على أنظمة الحكم وعلى البرلمانات بات شيئاً لا يمكن تجاهله أو تكذيبه، وبكل تأكيد فقد استخدمت الشركات هذه القوة من أجل صناعة الظروف التي تتيح لها الحصول على مزيدٍ من الأرباح الطائلة، وبمعنى أكثر تشخصياً للواقع استخدمت كل تلك القوّة النافذة والأموال الطائلة لصناعة إيديولوجيا الرأسمالية الاستهلاكية، والتي جعلتها مثل الإخطبوط يسير على أزمات ونكبات الرأسمالية التي ترتكبها وهي واعية تماماً لكارثية الطريق الذي تسير فيه وحجم تلك الآثار التي يدفع ثمنها الشعوب.
إنّ أحد أكثر الكوارث التي نجحت الشركات في صناعتها هي حرية تنقل رؤوس الأموال عبر الحدود القومية، وهو ما حفّز الحكومات في ظل الضغوط الاقتصادية التي تعاني منها – جراء ما صنعته سياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي- لتهيئة المناخ الاقتصادي والسياسي الجاذب للاستثمارات الأجنبية على أراضيها، باتخاذ كافة الإجراءات التي تؤّمن حصول الشركات على الأرباح وتقلل من فرص تعرضها للمخاطر، فتم تخفيف سلسلة الإجراءات البيروقراطية وتخفيض الرسوم الجمركية وتقنين التشريعات التي قد تسبب عائقاً أمام نشاط الشركات؛ مثل قوانين البيئة والقوانين المتعلقة بحقوق العمّال والحد الأدنى من الأجور وعمالة الأطفال والنساء والنظم الضريبية.
لكنّ في الوقت الذي بذلت فيه الدول كل تلك الجهود وذللت كل تلك الصعاب التي قد تعوق عمل الشركات، لم تعمل على اتخاذ كافة الضمانات والإجراءات التي تؤّمن لها استقرار الاقتصاد وثبات العملة المحلية في الوقت الذي تقرر فيه الشركات سحب كافة استثماراتها في هذه الدولة، فما تقدّمه الشركات من رؤوس أموالٍ ضخمةٍ للاستثمار في دولةٍ بسهولةٍ، يمكنها كذلك سحبها بنفس السهولة وبنفس القوانين والتشريعات، حيث تهدف الشركات في سياستها بشكلٍ عميق إلى التحرّك برؤوس أموالها بعيداً عن المخاطر، وهو ما قد يدفعها إلى الانسحاب من إحدى الدول إذا ما شعرت بمخاطر تهدد رؤوس أموالها، دون الاهتمام لتلك المخاطر التي قد تهدد اقتصاد دولة بالكامل، فرؤوس أموالها أهم من دولةٍ قد يصاب اقتصادها بالانهيار في وقتٍ قد لا يمكن تخيلّه تماماً.
تحاول بعض الأبواق المناصرة للسوق المحررة من القيود، إلقاء تبعات المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تمرّ بها بلدان العالم الثالث على تلك الطرق غير المنهجية التي تتبعها الحكومات في برامج التنمية، أي باختصارٍ تلك الطرق التي لا تتبع نهج السوق المحررة التي تصنعها وتحركها الشركات مثل قطع الشطرنج، والأغرب في تناقض تلك الدعاوى هو أن أغلب الدول التي مازالت التنمية فيها تواجه العقبات والعديد من المشكلات التي لم تعالجها حتى الآن هي أكثر الدول التي قد نفّذت كامل اشتراطات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي للحصول على قروضٍ تواجه بها عجز الموازنات العامة وحل العديد من القضايا العالجة في برامج التنمية فيها، وهي أكثر البلدان التي استقبلت مليارات الدولارات من رؤوس الأموال الأجنبية التي تم استثمارها عبر أراضيها، ولكن تظل أزمات دول العالم الثالث تقبع في ذيل التنمية، وتعاني المشكلات والأزمات المتفاقمة، بل والمتزايدة نتيجة تلك الآثار التي تخلّفها الشركات على الاقتصاديات المحلية وتفاقم البطالة واستنزاف الثروات والموارد الطبيعية.
نشير إلى نقطةٍ ستمثل نقلةٍ لأسباب عبودية العمل، وهي نقطة راسخة في كلاسيكات الاقتصاد، ففي الرأسمالية أصبح راسخاً أن جني الأرباح يعتمد على الفرق بين كلفة إنتاج سلعةٍ معينة وبين سعر مبيعها، وقد أفضت تلك القاعدة إلى نشاط الممارسات الاحتكارية، فإذا رغبت إحدى الشركات في جنيٍ أرباحٍ طائلةٍ في فترةٍ وجيزةٍ لجأت إلى الممارسة الاحتكارية لمنتجٍ معين يزداد الطلب عليه في الأسواق، ويكون بإمكان الشركة في هذه الحالة فرض تسعيرةٍ للمنتجٍ وفق تقديرها، وفي حال قيام شركةٍ أخرى بإنتاج نفس المنتج، فإن المنافسة هنا ستكون منصبّة على السعر الذي ستطرح به المنتجات في الأسواق، بما يعني في النهاية أن الربح لا يعتمد فقط على ذلك السعر الذي يدفعه المستهلك مقابل السلعة، بل من ضبط تكاليف إنتاج هذه السلعة والتي تتمثل في: ضبط تكلفة المواد الأولية والآلات وأجر العمالة والنقل والتوزيع، وعليه فإن الشركات تسعى إلى الحصول على المواد الأولية بأقل تكلفةٍ ووسيلةٍ ممكنة، وكذلك الأمر فهي تحتاج إلى شراء الأيدي العاملة ودمجها مع وسائل الإنتاج بأقل أجرٍ يمكنها دفعه، وعليه فإنّ إحدى السبل التي تتبعها الشركات للاحتفاظ بمستوى جني الأرباح المرتفع هو زيادة قيمة الأيدي العاملة لكن مع دفع أقل أجرٍ ممكن، أو من خلال الضغط على الأيدي العاملة لتنتج أكبر كميّةٍ من السلع في نفس عدد ساعات العمل الذي قد يعمل فيه عدد أكبر من العمّال.
إذن إنّ دور العمالة في مسار الرأسمالية يمثّل النقطة المركزية والحاسمة التي تحصل بواسطتها الشركات على الربح المستهدف، وهو الأمر الذي يدفع الشركات دائماً لابتكار أساليب ووسائل للحصول على أكبر عدد من الأيدي العاملة في مقابل أقل دفع أقل أجر، فمثلاً يمكن جلب أو استيراد عمالةٍ متدنية الأجر من دول نامية أو مهمّشةٍ أو استخدام العمال المرتهنون ضماناً لدْينٍ أو تسديداً لدْينٍ ورثوه من أحد أفراد العائلة، كذلك يمكن استغلال مناطق النزاعات المسلّحة في الحصول على أيدي عاملة متدنية الأجور في المناجم والعمل بالمحاصيل الزراعية الاقتصادية، وأحياناً تعمل الشركات على نقل الوحدات الإنتاجية ” إلى منابع العمالة الرخيصة في المناطق الهامشية من العالم، والتي ارتبطت حكوماتها بتحقيق التنمية الاقتصادية عبر التصنيع، على سبيل المثال؛ من أجل تسهيل إنشاء مصانع تجميع على أراضيها، أقامت حكومات إندونسيا وماليزيا وغواتيمالا ومكسيكو وغيرها مناطق تجارة حرة يسمح فيها للشركات الكبرى أن تنتج سلعة مجمّعة مثل الألبسة المفصلة وقطع الغيار الإلكترونية وغيرها، دون أن تدفع أية رسوم إنتاج أو جمارك ولكن بشرط أن لا تبيع هذه الشركات أي من منتجاتها داخل الدولة التي يتم فيها التجميع، مقابل ذلك وافقت الشركات المتعددة الجنسيات مثل نايك على تشغيل عمّال محليين من هذه الدول في تلك المصانع” ، لقد شكّلت النساء العاطلات والقاصرات أكبر نسبةٍ من الأيدي العاملة التي تعمل لصالح مصانع التجميع، ونظراً لعدم قانونية عمل النساء والقاصرات والأطفال، فإنّ المصانع التجميعية غير ملزمةٍ أن تدفع لهؤلاء مثلما تدفع للرجال، وعلى نفس المنوال فإن الشركات متعددة الجنسيات غير ملزمةٍ بأن تدفع للعمّال الأجانب والوافدين مثلما قد تدفع للعمال المحليين.
في واحدةٍ من أكثر صور الرأسمالية بشاعةٍ خلال القرن العشرين تمثّلت في دفع الدول إلى ما سمّي” إعادة الهيكلة” المعتمد على بيع ما تمتلكه الدولة من أصول إنتاجية أو خدمية، وهو ما أفضى بعد سلسلةٍ من الإجراءات الحكومية لخفض العجز في الموازنة العامة إلى تلك المرحلة التي تم ضبط تكاليف العمل فيها لتلائم الأزمات المالية التي قد تتعرض لها الأنشطة الإنتاجية وتؤثر بشكلٍ واضحٍ على تدني معدل الاستهلاك، وهو ما قد يعرّض تلك الأرباح الطائلة للشركات للهبوط عن المعدّل المرغوب فيه( ).
وقد أصبحت مستويات الأجور الرخيصة عنصراً للمنافسة في الأسواق العالمية وعنصراً جاذباً للاستثمارات الأجنبية في بلدان العالم الثالث، وهو ما جعل أسواق رأس المال الإنتاجي ليست متوقّفة فقط على الشراء المباشر أو غير المباشر لقوّة العمل المحلية، بل تحرّك الأمر من سوق العمل الوطنية إلى أسواقٍ أخرى خارجية، حيث قد أدت برامج التكيف الهيكلي إلى حدوث انكماشٍ ملحوظٍ في الأجور بشكلٍ عام نتيجة فرض نظامٍ جديد لسوق العمل المعتمد على العمل لبعض الوقت، والمعاش المبكّر، وحدوث تخفيضات جبريةٍ على الإجور، وهو ما أدى إلى نقل عبء البطالة إلى المجموعات العمرية الأصغر سناً والذي قد تم استبعاده نهائياً عن سوق العمل وهو ما أدى بدوره إلى توجه الفئات العمرية الأصغر سناً للأسواق الخارجية.
وفي ظلّ انعدام الدخول الاقتصادية لتلك الفئة المصابة أصلاً بعائق البطالة والبطالة المقنّعة، فغالباً ما يلجأ هؤلاء للشباب إلى كسر حصار القوانين المنظّمة للعمل في الدول الأجنبية، إمّا بالتحايل على تلك اللوائح الإدارية، أو عبر اللجوء إلى وكلاء محليين ودوليين لمساندتهم على الهجرة غير الشرعية إلى دولةٍ أجنبية ربما تتوافر فيها مصادر كسب الرزق بشكلٍ أكثر ملائمة لطموحات تلك الفئة.
وبرغم أنه ليس بالضرورة أن معظم الأيدي العاملة التي تسعى إلى الهجرة تنتمي إلى الطبقات متدنية الفقر في بلدانهم، إلا أنها في الغالب تأتي من أفقر البلدان من حيث الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد، وغالباً ما تتطلب عملية الهجرة توافر رصيداً مالياً واجتماعياً( )، لذا فإنّ ضحايا الاتجار ليس لديهم إمكانية الوصول إلى مثل هذا الرصيد ومن ثم يقعون فريسة جماعات أو أفراد من تجّار البشر الذين يستغلون فقرهم وحاجاتهم لأنهم يمثّلون الفئة الأكثر استضعافاً من غيرهم، غير أنه لا يمكن اعتبار الفقر هو السبب الرئيس لوقوع المهاجرين فريسةً للاتجار، فهناك عوامل أخرى متضافرة مثل التمييز والفساد والبطالة التي تدفع بالأفراد للشروع في الهجرةـ، ففي غرب أفريقيا فإن مصادر الاتجار هي غالباً تلك المناطق التي لم تستفد من التنمية والتي ينشأ فيها دائماً ما يسمى بالهجرة الموسمية، كما في شمال غانا الذين يضطرون للانتقال إلى المناطق الحضرية للبحث عن العمل، وكثيراً ما تتعرض النساء والفتيات للاستغلال، وفي نيجيريا ينتمي معظم الضحايا وفقاً لمنظمة العمل الدولية إلى الطبقات الأدنى اجتماعياً واقتصاديا، وينحدر العديد منهم من أسرٍ كبيرة العدد، وهو ما جعل معظمهم لم يتحصل على قدرٍ من التعليم، وفي دراسةٍ دعمتها منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة تناولت الاتجار بالأطفال في 11 ولاية في جنوب نجيريا كانت النتيجة أيضاً أن الاتجار يستشري حيث الفق متوطن( ).
ويمثل التمييز القائم على الجنس أو الأصل الإثني عامل حاسم أخر في وقوع الأشخاص فريسة للاتجار بالبشر، فقد تبيّن بشأن المهاجرين العائدين في شرق وجنوب شرق أوروبا أن غالبية المهاجرين الناجحين في العودة هم ن الرجال، في حين تشكّل النساء نسبة ضئيلةً مما يعني أن أغلبهن يقعن فريسة الاستعباد ولا يتمكنن من العودة لأوطانهم، وقد أشار ضحايا عمليات الاتجار من الرجال والنساء إلى أن عبودية الدين قد منعتهم من قطع علاقة العمل، ومع ذلك هنالك عدد من النساء أكبر من الرجال يتحدثن عن العنف الفعلي أو التهديد بالعنف ضد أسرتهم بوصفه السبب الرئيس الذي يمنعهن من المغادرة، أمّال الرجال فإن أكثر ما يخشون هو إبلاغ السلطات عنهم، وعليه يبدو أن الخروج من طوق العمل الجبري محفوف بالمخاطر بالنسبة للمرأة أكثر مما هو بالنسبة للرجل.
ويعود ذلك إلى تلك الظروف التي كانت تعيش في النساء قبل الهجرة؛ من حيث المسكن والمأكل، وحيث تضطر إلى الهجرة لتحسين ظروف الأسرة، ولأن معظمهن لم يستطعن مواصلة أو الالتحاق بالتعليم، فإنّهن غالباً ما يستطعن الحصول على معلوماتٍ سليمة بشأن الهجرة وحقوق عملهن.
وفي حالاتٍ أخرى قد تكون عمليات الزواج القسري التي تقع الفتيات في عبوديتها دافعاً أخر للهجرة، خاصة إذا وقعت فريسة للاستغلال الجنسي من قبل الزوج، بل وقد تكون الهجرة الداخلية سبباً للعمل الجبري خاصة التي يتعرض لها الأطفال والقاصرات الذين قد لا يتمكنون للهجرة إلى دولةٍ أخرى فيلجأون للهجرة الداخلية، وهو ما يُعرف بالهجرة الموسمية مثلما يحدث في غانا التي تتعرض لموسم الجفاف كل عام، وقد تجبر الفتيات القاصرات والنساء على التنازل عمّا يكسبن ويجبرن على تقديم خدمات جنسية إلى أصحاب المتاجر الذين يوفرون لهنّ مكاناً للمبيت، وهو ما يجعل هؤلاء الفتيات يواجهن مصاعب أخرى للاندماج في مجتمعاتهن إذا كنّ حوامل.
وفي ظلّ كل تلك الكوارث يمتنع الضحايا عن الإبلاغ عن تلك الممارسات الجبرية والاستغلال الذي يتعرضون له خشية الطرد من البلدان وفقدان أي مكاسب يرون أنها تحقق لهم قدراً من المال، ولأنهم يعرفون أنهم في الأصل قد خالفوا قوانين الهجرة إلى تلك البلدان، وحيث أن معظم تشريعات مناهضة الاتجار مزالت قاصرة على الاستغلال الجنسي فإنّ الضحايا لا تتلقى عموماً أي حماية من الاستغلال في إطار العمل الجبري.
لقد وصف تقرير العمل الجبري الاتجار بالأشخاص لأغراض العمل الجبري بأنه ” الجانب المظلم” من العولمة، فالعمل الجبري المقترن بالاتجار يمثّل واحداً من جوانب الفشل الذريع الفاضحة في أسواق العمل بل حتى في سداد الإدارة عالمياً تصدياً لاحتياجات أكثر الناس استضعافاً وأقلهم حماية في عالم اليوم، ومع أنّ ظاهرة الاتجار في حدّ ذاتها ليست مشكلة جديدة بتاتاً فإنّ آليات هذا الاتجار اليوم تفرض تحديات جديدة هامة أمام المجتمع العالمي.
إنّ العمّال المرتهنون بالدين يتعرضون من حينٍ لآخر إلى الإكراه في مختلف الصناعات تبعاً لأساليب مختلفة من الاستغراق في الدين، ذلك أن بعض أصحاب العمل الذين لا وزاع أخلاقياً لديهم يجدون في ذلك فرصةً لاستغلال هذا المصدر من اليد العاملة الرخيصة والمستضعفة، ولا يعدّ الارتهان بالدين قاصراً على البلدان النامية فحسب، بل إن العمال المرتهنون بالدين يقعون فريسة العمل الجبري في البلدان الصناعية كذلك، وفي بعض الاقتصاديات الناشئة في شرق آسيا يتعرضون لنفس المشكلات، حيث يسعى أصحاب العمل في أسواق القطاع الخاص الناشئة إلى استغلال أكبر عدد من العمالة الرخيصة وغير المحمية في غالب الوقت، حيث يخضع معظم الموردين إلى ضغوطٍ من الشركات العالمية لتخفيض تكاليف الإنتاج، وهو ما يصيب الموردين بأزماتٍ مالية نتيجة لانخفاض أسعار المنتجات بالمقابل، لذا يضطرون إلى تخيض تكاليف الأيدي العاملة أملاً في تحقيق نسبة أرباحٍ تمكّنهم من مواصلة نشاطهم الإنتاجي بدلاً من الوقوع في فخّ الإفلاس، ومن جانب آخر يماس الموردين ضغوضاً على المتعاقدين لتوفير العمّال بتكلفة منخفضةٍ لدرجة يزيد معها احتمال استخدام وسائل الإكراه والابتزاز والتهديد، ففي بريطانيا قام أحد المتعاقدين بتزويد عمّالاً من جنوب أفريقيا إلى شركةٍ لتغليف الفاكهة وكانت الشركة بدورها تقوم بتوريد الفاكهة لكبرى شبكات البيع بالتجزئة، وهو ما جعل الشركة تدفع أجراً متدنياً وضئيلاً للغاية لمجرد تغطية التكاليف لدى أي متعاقد في اليد العاملة.
وفي العديد من البلدان رافق هذا الضغط على التكاليف اتجاهان آخران أفضيا إلى العمل الجبري هما؛ زيادة العرض من حيث العمّال المهاجرون وإلغاء الضوابط في أسواق العمل، الأمر الذي يطمس الحدود القائمة بين الاقتصاد المنظم والاقتصاد غير المنظم، وقد يكون العمّال المهاجرون أكثر عرضةً لأوضاع العمل الجبري وذلك لأهم وأفراد أسرتهم لا مصلحة لهم في الإبلاغ عن هذه الأوضاع لدى السلطات، بالإضافة إلى ذلك فإنّ الضغوط القوية التي تنادي بإلغاء الضوابط في أسواق العمل وبتحجيم خدمات التفتيش في مجال العمل ربّما مكّنت من انتشار الوكالا غير المسجّلة التي يمكنها أن تزاول أنشطتها خارج نطاق أي مراقبةٍ من جانب الحكومات.
الغريب في ظلّ ذلك الانتهاك الصارخ للحقوق الإنسانية من قبل الشركات وأصحاب منشآت الإنتاج الصغيرة وتعرّض ملايين العمّال للعمل الجبري أن هناك من يدعو إلى الإلغاء التدريجي للقوانين المنظّمة للعمل بحجّة إتاحة فرصة للأنسياب والمرونة في آلية سير أسواق العمل، وهو ما يدعو للسخرية حيث أن التحرر من هذه القوانين وعدم التنفيذ الصارم لها هو ما أفضى إلى أسوأ أشكال الخلل في سوق العمل، فالعمل الجبري يعتبر بمثابة تجسيداً عملياً للخلل الحادث في سوق العمل نظراً لعدم تطبيق الشروط الرئيسة التي ينبغي أن تتوفر في تلك الأسواق، والتي تتمثل في حرية العمّال في ممارسة الاختيار وفي الحصول على أجرٍ عادلٍ وكافٍ مقابل ما يقومون به من أعمال، ففي الوقت الذي تضغط الشركات على الدول لاتخاذ كافة الإجراءات وسنّ التشريعات لضمان حقوق الملكية، فإنه يتم التغاضي عن حقوق العمّال في الاختيار والحصول على أجرٍ عادل وكاف، ولا تهتم الدول الصناعية الكبرى كثيراً بالحوافز التي تستهدف تحقيق عولمة خالية من العمل الجبري، وربما يمثّل المستهلكين أهمية في هذا المسار، حيث بإمكانهم المطالبة بمعايير عملٍ أرقى شأنها في المنتجات التي يستهلكونها، وبإمكانهم كذلك التوقّف عن شراء المنتجات التي تُنتج في ظل العمل الجبري والاستعباد، وبرغم أن كثيراً ما تعمل الشركات على إخفاء المعلومات المتعلّقة بسلسة الإنتاج عن الجهور، لكن بإمكان هؤلاء المستهلكين الحصول على معلوماتٍ بشأن الظروف التي تنتج فيه السلع التي يستهلكونها( ).