كتب : مصطفى شوربجى .
” وهكذا، لن تموت النوبة حين تغمر المياه صخورها ووديانها، فهى جزء من معرفتنا الكلية بأنفسنا. “
بهذه العبارة البليغة. إختار جريز أن يختم كتابه الشيق “سد عال فوق أرض النوبة” الصادر فى لندن 1962
الكتاب الذى يمثل خلاصة تجربة شخصية جدا. عاشها وسجلها الأثرى الإنجليزى ليزلى جريز سعيد الحظ كما يوصف نفسه وذلك بعد أن شارك فى أحد بعثات التنقيب عن الإثار النوبية، التى توافدت على بلاد النوبة المصرية والسودانية بعد نداء اليونسكو الشهير فى ستينيات القرن الماضى لإنقاذ أثار النوبة قبل غرقها تحت طوفان المياه المرتد من السد العالى.
تكلم ليزلى كنوبى تمامًا فبعد مرور نصف قرن على إستقرارها فى قاع النهر لاتزال النوبة جزء من معرفتنا الكلية بأنفسنا كنوبيين. لا تكتمل رؤيتنا لذواتنا إلا بها وعبرها.
ظهيرة يوم ستينى وعلى ظهر باخرة إنجليزية عتيقة تتهادى فيما وراء الشلال. وقف ليزلى ورفيقه المهندس المصرى يستعرضان بلاد النوبة على ضفتى النهر.
” لسوف يختفى كل هذا وتنشأ جغرافية جديدة. “
المهندس المصرى فى سياق حديث زاهى وفخور بالمشروع العملاق.
ألتفت إلى ليزلى وأسترسل موضحًا كيف ستغرق تلك الغابات الخضراء من النخيل ومئات البيوت البيضاء الزاهية تحت مياه السد. فقطع ليزلى استرساله فجأة متسائلًا..
“ألا تظن أن هذا من دواعى الأسى؟ “
كان سؤال إستنكاريًا بمالاينتظر إجابات، لذا صَمت بعدها، ولم يشأ أن يفسد حديث رفيقه المصرى ، لكن ومع إختراق الباخرة للمياه المشوبة بالحمرة وتوالى مشاهد القرى وأهلها الرائحين الغادين فى وادعة والذين يكدون فى حقولهم ويرعون مواشيهم على ضفتى النهر. رأى ليزلى جريز أن الأمر يبدو مأساويًا وكارثيًا. ما دفعه لإعادة التساؤل بإصرار ومنتظرًا إجابة واضحة هذه المرة.
“ألن يبقى شىء من هذا على الإطلاق؟ “
كأن يأمل فى سماع إجابة مختلفة تكذب ظنونه. لكن أجابه المهندس بيقين مطمئن وسخيف.
” نعم ستغرق النوبة بالكامل ــ مضيفًا فى وصلة كذب ناصرية النهكة ــ وسينتقل أهلها إلى مواقع جديدة خير من مناطقهم تلك وستمد لهم مياه الرى. إنهم قوم فقراء للغاية هنا وبيئتهم هنا أفقر. ولسوف يتمتعون بمستوى معيشة أعلى بكثير. ” إلى أخر هذه الهراء. ”
ليزلى ترك مهمة إنقاذ الحجارة والمعابد والقلاع وأستهوته دراسة النوبة الجغرافيا والمكان بتفاصيله وملامحه وناسه ومن هم وكيف يعيشون ، وحكاياته التى سجلها عن النوبة فى كتابه الممتع “سد عال فوق أرض النوبة”تمثل لنا وللذاكرة الإنسانية ككل تاريخًا بديلًا للنوبة الغريقة التى توارى ذكرها جوار السد العالى.والذى سيظل تاريخ مسكوت عنه مكتفيًا بموقعه البارز فى ذاكرة الحزن النوبية.
” رست باخرتنا ممنون ــ أحد بقايا اسطول شركة كوك النهرى حتى ان أدوات المطبخ فيها لازالت تحمل شارة خطوط كوك النيلية ــ أمام منازل بيضاء متراصة على حافة الجرف تطل على النهر تمامًا كأحد الجزر اليونانية. “
ليزلى هنا يحدثنا عن جزيرة هيسا. وكان دقيقًا فى وصفه لأبعد حد.فالصور التى تنقل لنا مشاهد من جزيرة سانتورينى اليونانية تحمل تشابهًا عظيمًا بينها وبين جزيرة هيسا النوبية من حيث الإطلالة المائية والبيوت زاهية الألوانمستكملًا رحلته جنوبًا نحو دابود.
“. لم يكن رسونا هنا فى دابود بدعوة من أهل القرية ورغم ذلك فقد كانوا أهل وقار ومودة وترحيب. لم يكونوا فضوليين. جرت العادة انه فى اللحظة التى تطأ اقدامنا فيها أى قرية مصرية أن يتزاحم الناس علينا طلبًا للبقشيش لكن هنا فى دابود القرية النوبية الكبيرة كان الرجل يقابلنا.فيحيينا بشىء من الوقار قائلًا بالإنجليزية صباح الخير. كأنما أراد ان يبلغنا أنه رأى العالم من قبل. “
وهكذا ظل ليزلى فى عقد المقارنات بين ما شاهده فى مصر، وبين ما لاحظه فى النوبة.كان إنبهار المؤلف بمستوى النظافة فى بلاد النوبة عظيمًا واورد ذلك فى عدة فقرات منها
” هى بيوت بيضاء نظيفة وجديدة ولكن سر نظافتها لا يرجع لجدتها ولكنها سمة حياة هنا.فلا انسى وانا فى احد القرى عندما وقفت امام ساحة أحد البيوت وأعدت إلى علبة الكبريت عود ثقاب كنت قد أشعلته. إذ تخيلت انه سينظر لى شذرًا إذا رميته هنا “
يخبرنا ليزلى ان البيوت جديدة وهذه ملاحظة دقيقة أيضًا. حيث أن البيوت القديمة تضررت بسبب الخزان وتعلياته فأضطر بعدها النوبيون إلى النزوح فوق الجبال المتأخمة للقرى وشيدوا هناك بيوت جديدة .
كانت ايام ليزلى فى النوبة كافية لكى يلمس أحد أبرز خصال النوبيين فيؤكد لنا صحة ما ذهب إليه الرحالة الأوربى جادزبى الذى زار النوبة عام 1846.
” الرجال النوبيين لا يعترضون أن تتحدث زوجاتهم واخواتهم إلى الرجال، هم يثقون فيهم تمامًاولا يشتبهون فيهم مطلقًا. إلا إنهم سريعو التنفيذ حين تتأكد أحد الشبهات.فربطهن بأحد الثقائل والقذف داخل النيل أول الحلول “
ولم ينسى ليزلى أن يختم فقرته بأن نسوة النوبة من اكثر نساء الشرق فضيلة.
” اختيرت فى إعتقادى على اساس ألونها الزاهية اكثر من دلالتها الدينية. إذ أن هؤلاء الناس الطيبون كانوا مسلمين الديانة “
يتطوع هنا ليزلى مفسرًا رؤيته لصورة السيدة العذراء فى احد البيوت النوبية على أنه إعجابًا بالألوان الزاهية لا أكثر. أعتقد جريز بأستحالة ان يُرى فى بيوت هؤلاء المسلمون صورة لمريم العذراء وطفلها لأسباب عقائدية بالطبع. لكنه قد يكون مخطىء فى تفسيره هذه المرة. إنه لا يستطيع ان يرى الفارق بين المسلمون العرب وبين المسلمون النوبيين. أولئك القادمون من مسيحية قديمة ومستقرة فى وجدانهم ظلوا يدينون بها حبًا وإقتناعًا لأكثر من ست قرون والحاملون إلى الأن بوفاء وتوقير كثير من تراثها وعاداتها.يبدو أن ليزلى كان مولعًا بأخبار أقرانه ممن سبقوه فى استكشاف النوبةفينقل لنا شهادة مواطنته العانس الإنجليزية حسب تعبيره إميليا إدواردز التى سجلتها بعدما عبرت الشلال الاول عام 1874 ووصفت تلك الجزر الجرانيتية الكثيرة التى تعترض مجرى النهر بالأرخبيل الخيالي.يبد أن ليزلى كان معجب كثيرًا بروايات جادزبى الناشر الإنجليزى الفيكتورى عن النوبة وطبيعة الحياة فيها فيذكرنا بقوله :-
” لا شىء فى العالم مماثل لحلاوة الإصباح والأمسيات فى النوبة ، مجرد التنفس هناك يعتبر رفاهية. يا لسعادة رئتيك هنا، فى مقدورك ان تقرأ بوضوح على ضوء القمر المشهد هادىء تمامًا الهواء ساكن، اوراق الشجر لا تتحرك، النهر يتهادى فى مجراه دون موجالطبيعة فى غيبوبة، لا يقطع السكون سوى صوت بجعة مذعورةأو صوت سمكة كبيرة تقفز فى الماء فيتطاير بعض الرذاذ ” .
أستمر ليزلى فى صعوده نحو النوبة العليا مستقلًا باخرته ممنون حتى وصل أخيرًا إلى الدر.العاصمة القديمة ومركز الحكم لعشرات السنين. ومن هنا كانت تدار مقاليد الأمور فى الإقليم النوبى كله. من قصر حسن كاشف تحديدًا.عندما أرتجل ليزلى هابطًا من ممنون نحو ميناء الدر تذكر على الفور حديث سانت جون الذى زارها 1938
” الدر هى ألطف مكان رأيته على الأطلاق خلال رحلتى فى وادى النيل. الشوارع متسعة ونظيفة للغاية، تحفها حدائق منسقة محاطة بأسوار، وقد ملئت بأشجار البرتقال. وترتفع وسط أكبر ميادينها شجرتان بديعتان من أشجار الجميز بنى حول جذعها طورا نظيف حيت يجلس بعض سكان الدر يدخنون فى كنف الظل وليس ثمة أى مظهر من مظاهر البؤساء او المتسولين او النساء المهلهلات الثياب أو الأطفال العرايا الذين تعلوهم القاذورات “
تذكر جريز ذلك بأسى وهو يعاين شجرة الجميز نفسها والتى ساءت حالتها كثيرًا. رغم أن سانت جون وصفها منذ عشرون عامًا تقريبًا بأنها أكبر شجرة وقع عليها بصره.
يختم ليزلى جريز كتابه منبهًا فى حزن أن حجم بعثات إنقاذ آثار النوبة والميزانيات المتوافرة لها لا تكاد تفى بالمهمة المطلوبة منها خلال هذه الوقت المحدود ــ عامان على الأكثرــ قبل غرق المنطقة بالكامل وكانت النوبة المصرية أسعد حظًا من النوبة السودانية.
فمصر قد فتحت خزائن متحفها الكبير فى التحرير وأغرت المنظمات المهتمة بالتنقيب عن الاثار بهدايا أثرية قيمة مقابل جهودها فى الكشف عملية الإنقاذ.وصلت تلك الهدايا إلى حد إهداء معابد بأكملها الى بعض الدول. وهو ما لا يتوفر فى السودان حيث أن معظم تاريخها ــ وهو نوبى فى الأساس ــ مازال مدفون تحت الأرض والمعروض فى المتحف القومى فى الخرطوم شحيح للغاية. ما أضطر وزير الآثار السودانى إلى تقديم عرض سخى جدًا ومؤسف فى ذات الوقت. حيث عرض على المنظمات الأجنبية العاملة منحها بالتنقيب نصف ما يمكنها إنقاذه او الكشف عنه من كنوز ومعابد.
وبقى التأكيد على أن ما تم إنقاذه من آثار النوبة لا يتعدى نسبته 30% من حجم الأثار التى غرقت بالفعل بعد إكتشافها أو التى ظلت مدفونة بباطن أرض النوبة. وللأسف لم ينجح نداء اليونسكو فى إنقاذ إلا جزء يسير من أثار النوبة
” العالم بأسره له الحق فى ان يراها قائمة على مر الأزمان ذلك إنها جزء من تراث مشترك يشمل رسالة سقراط ونقوش أجانتا فى الهند وسيمفونيات بيتهوفن “
فيتروينو فيرونيز مدير عام منظمة اليونسكو فى جانب من نداءه الشهير الذى وجهه لإنقاذ آثار النوبة.
النوبة سحرت لب ليزلى جريز فأوحت له بخاتمة فلسفية لكتابه.
” لقد عثرت اخيرا على جزء من العالم لا يحاول فيه الناس ان بيبعوا لبعضهم البعض أشياء ليسوا فى حاجة إليها.مكان فى العالم لا يضيع فيه الناس أيام عمرهم فى إغراء بعضهم بالبعض بما يمتلكون أو التباهى به. مكان يصحو فيه الناس كل يوم ثم يعيشون فى بساطة متناهية ثم ينامون.إن حياتهم عكس حياتنا. بل انهم متطرفون فى ذلك”
وجدير بنوبيين اليوم أن يستعيدوا تلك الكلمات ويسألوا أنفسهم أين يقفوا من أقرانهم.
عند خانق كلابشة الشهير عندما تتقارب الضفتان الصخرية للنهر حتى تكاد تتلاصق ويمر النهر بينهما محصورًا ضيقًا فى الأسفل.
فى نفس النقطة التى أعتاد النوبيون عبر التاريخ أن يقفوا عندها فى صمت وخشوع مبتهلين إلى الله بأمنياتهم ورجواتهم، وقف ليزلى جريز ناظرًا لقوافل طائر اللقلق العائدة إلى اوربا، بعد هجرتها السنوية الى الجنوب الدافىء.
وظل يفكر فى أمر العام القادم عندما تبدأ البحيرة فى الإمتلاء والتوسع وقضم ما حولها من يابسة
وتأتى أفواج اللقلق فى رحلتها الإعتيادية. والنوبة قد زالت من الجغرافيا تقريبًا
هل سيظن اللقلق انه ضل الطريق؟
ألن يخبره أحد ان النوبة قد غرقت؟
يال روعة المشهد .. رغم قلبى الذى يعتصر مع كل حرف من حروف هذه الحكاية إلا أننى أجد نفسى منتشيا فرحا بما جاء على لسان ليزلى من اشادات بقومى ومقارنة فضائلهم بسيئات الآخرين .. وبين الحزن والفرح مما قرأت ، والأسى والألم على ما ولى وراح من صفات وعادات حميدة عظيمة وعلى حال ناسنا اليوم وما آلوا اليه ، أجد نفسى حائرا فى أن أشيد بالراوى أو البكاء على حالنا.
… وتأتى أفواج اللقلق فى رحلتها الإعتيادية والنوبة قد زالت من الجغرافيا تقريبًا هل سيظن اللقلق انه ضل الطريق؟ ألن يخبره أحد ان النوبة قد غرقت؟ .. ذكرتني هذه السطور بمرثية الراحل سيد جاير الخالدة عن الجنة المفقودة “وارهاوى” .. لله الأمر من قبل ومن بعد ، ولك يا عزيزى الشوربجي كل الود والتقدير والثناء.
تعليقك اسعدنى جدا يا قبطان
النوبة هى روحنا التى نتنفس الحياة عبرها
عن شعور مش بقدر اوصفه لما بتكتب عن النوبه
شكرا بجد
تعليقك اسعدنى جدا يا قبطان
النوبة هى روحنا التى نتنفس الحياة عبرها
شكرا جدا